الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (12- 16): {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}ولما كان مخالف الملك في محل العقاب، تشوف السامع إلى خبره فأجيب بقوله: {قال} أي لإبليس إنكاراً عليه توبيخاً له استخراجاً لكفره الذي كان يخفيه بما يبدي من جوابه ليعلم الخلق سبب طرده {ما منعك} ولما كانت هذه العبارة قد صرحت بعدم سجوده، فكان المعنى لا يلبس بإدخال لا في قوله: {ألا تسجد} أتى بها لتفيد التأكيد بالدلالة على اللوم على الامتناع من الفعل والإقدام على الترك، فيكون كأنه قيل: ما منعك من السجود وحملك على تركه {إذ} أي حين {أمرتك} أي حين حضر الوقت الذي يكون فيه أداء المأمور به {قال} أي إبليس ناسباً ربه سبحانه إلى الجور أو عدم العلم بالحق {أنا خير منه} أي فلا يليق لي السجود لمن هو دوني ولا أمري بذلك لأنه مناف للحكمة؛ ثم بين وجه الخيرية التي تصورها بسوء فهمه أو بما قاده إليه سوء طبعه بقوله: {خلقتني من نار} أي فهي أغلب أجزائي وهي مشرفة مضيئة عالية غالبة {وخلقته من طين} أي هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب، وقد غلط غلطاً فاحشاً فإن الإيجاد خير من الإعدام بلا نزاع، والنار سبب الإعدام والمحق لما خالطته، والطين سبب النماء والتربية لما خالطه، هذا لو كان الأمر في الفضل باعتبار العناصر والمبادئ وليس كذلك، بل هو باعتبار الغايات.ولما كان هذا أمراً ظاهراً، وكان مجرد التكبر على الله كفراً على أيّ وجه كان، أعرض عن جوابه بغير الطرد الذي معناه نزوله المنزلة الذي موضع ما طلب من علوها فاستأنف قوله: {قال} مسبباً عن إبائه قوله: {فاهبط منها} مضمراً للدار التي كان فيها وهي الجنة. فإنها لا تقبل عاصياً، وعبر بالهبوط الذي يلزم منه سقوط المنزلة دون الخروج، لأن مقصود هذه السورة الإنذار وهو أدل عليه، وسبب عن أمره بالهبوط الذي معناه النزول والحدور والانحطاط والنقصان والوقوع في شيء منه قوله: {فما يكون} أي يصح ويتوجه بوجه من الوجوه {لك أن تتكبر} أي تتعمد الكبر وهو الرفعة في الشرف والعظمة والتجبر، ولا مفهوم لقوله: {لك} ولا لقوله: {فيها} لوجود الصرائح بالمنع من الكبر مطلقاً {إنه لا يحب المستكبرين} [النحل: 23]، {كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر} [غافر: 35] {قال الذين استكبروا إنا كل فيها} [غافر: 48]، وإنما قيد بذلك تهويلاً للأمر، فكأنه قيل: لا ينبغي التكبر إلا لنا، وكلما قرب الشخص من محل القدس الذب هو مكان المطيعين المتواضعين جل تحريم الكبر عليه «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل كبر» رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، وسبب عن كونها لا تقبل الكبر قوله: {فاخرج} أي من الجنة دار الرضوان، فانتقى أن يكون الهبوط من موضع عال من الجنة إلى موضع منها أحط منه، ثم علل أمره بالهبوط والخروج بقوله مشيراً إلى كل من أظهر الاستكبار ألبس الصغار: {إنك من الصاغرين} أي الذين هم أهل للطرد والبعد والحقارة والهوان.ولما علم أن الحسد قد أبعده ونزل به عن ساحة الرضى وأقعده، تمادى فيه فسأل ما يتسبب به إلى إنزال المحسودين عن درجاتهم العاليه إلى دركته السافلة، ولم يسأل بشقاوته فيما يعليه من دركته السافلة إلى درجاتهم العالية، وذلك بأن {قال} أي إبليس، وهو استئناف؛ ولما كان السياق- ولاسيما الحكم بالصغار العاري عن تقييد- يأبى لأن يكون سبباً لسؤاله الانتظار، ذكره بصيغة الإحسان فقال {أنظرني} أي بالإمهال، أي اجعلني موجوداً بحيث أنظر وأتصرف في زمن ممتد {إلى يوم يبعثون} أي من القبور، وهو يوم القيامة، وكان اللعين طلب بهذا أنه لا يموت، فإن ذلك الوقت ليس وقتاً للموت، إنما هو وقت إفاضة الحياة الأبدية في شقاوة أو سعادة، فأعلم سبحانه أنه حكم له بالانتظار، لكن لا على ما أراده ولا على أنه إجابة له، ولكن هكذا سبق في الأزل في حكمه في قديم علمه، وإليه يرشد التعبير بقوله: {قال إنك من المنظرين} أي في الجملة، ومنعه من الحماية عن الموت بقوله كما ذكره في سورتين الحجر وص {إلى يوم الوقت المعلوم} [الحجر: 38، ص: 81]، وهووقت النفخة الأولى التي يموت فيها الأحياء فيموت هو معهم، وكان ترك هذه الجملة في هذه السورة لأن هذه السورة للإنذار، وإبهام الأمر اشد في ذلك، وأجابة إلى الإنظار وهو يريد به الفساد، لأنه لا يعدو أمره فيه وتقديره به، ولأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، ولتظهر حكمته تعالى في الثواب والعقاب.ولما كان قد حكم عليه بالشقاء، قابل نعمة الإمهال وإطالة العمر بالتمادي في الكفر وأخبره عن نفسه بذلك بأن {قال} مسبباً عن إيقاعه في المعصية بسبب نوع الآدميين {فبما أغويتني} أي فبسبب إغوائك لي، وهو إيجاد الغي واعتقاد الباطل في قلبي من أجلهم والله {لأقعدن لهم} أي أفعل في قطعهم عن الخير فعل المتمكن المقبل بكليته المتأني الذي لا شغل له غير ما أقبل عليه في مدة إمهالك لي بقطعهم عنك بمنعهم من فعل ما أمرتهم به، وحملهم على فعل ما نهيتهم عنه، كما يقعد قاطع الطريق على السابلة للخطف {صراطك} أي في جميع صراطك، بما دل عليه نزع الخافض {المستقيم} وهو الإسلام بجميع شعبه، ومن أسند الإغواء إلى غير الله بسبب اعتقاده أن ذلك مما ينزه الله عنه، فقد وقع في شر مما فر منه، وهو أنه جعل في الوجود فاعلين يخالف اختيار أحدهما اختيار الآخر..تفسير الآيات (17- 20): {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)}ولما كان قد أقام نفسه في ذلك بغاية الجد، فهو يفعل فيه بالوسوسة بنفسه ومن أطاعه من شياطين الجن والإنس ما يفوت الحد ويعجز القوى، أشار إليه بحرف التراخي فقال مؤكداً: {ثم لآتينهم} أي إتياناً لابد لي منه كائناً ابتداؤه {من بين أيديهم} أي مواجهة، فأحملهم على أن يفعلوا ما يعلمون أنه خطأ {و} كائناً {من خلفهم} أي مغافلة، فيعملون ما هو فاسد في غاية الفساد ولا شعور لهم بشيء من فساده حين تعاطيه فأدلهم بذلك على تعاطي مثله وهم لا يشعرون {وعن} أي ومجاوزاً للجهة التي عن {أيمانهم} إليهم {وعن} أي ومجاوزاً لما عن {شمائلهم} أي مخايلة، فيفعلونه وهو مشتبه عليهم، وهذه هي الجهات التي يمكن الإتيان منها، ولعل فائدة {عن} المفهمة للمجاوزة وصل خطى القدام والخلف ليكون إتيانه مستوعباً لجميع الجهة المحيطة، وأفهمت الجهات الأربع قدحه وتلبيسه فيما يعلمونه حق علمه وما يعلمون شيئاً منه وما هو مشتبه عليهم اشتباهاً قليلاً أو كثيراً، وهم من ترك ذكره الأعلى أنه لا قدرة له على الإتيان منه لئلا يلتبس أمره بالملائكة، وقد ذكر ذلك في بعض الآثار كما ذكره في ترجمة ورقة بن نوفل رضي الله عنه.ولما عزم اللعين على هذا عزماً صادقاً ورأى أسبابه ميسرة من الإنظار ونحوه، ظن أنه بما راى لهم من الشهوات والحظوظ يظفر بأكثر حاجته، فقال عاطفاً على تقديره: فلأغوينهم وليتبعنني: {ولا تجد أكثرهم} كما هي عادة الأكثر في الخبث {شاكرين} فأريد به الشقاء فأغرق في الحسد، ولو أريد بالشقي الخير لاستبدل بالحسد الغبطة فطلب أن يرتقي هو إلى درجاتهم العالية بالبكاء والندم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة خضوعاً لمقام الربويية وذلاً لعظيم شأنه.ولما كان كأنه قيل: ماذا قال له؟ قيل: {قال} في جواب ما ذكر لنفسه في هذا السياق من القوة والاقتدار وأبان عنه من الكبر والافتخار ما دل على أنه من أهل الصغار، لا يقدر على شيء إلا بإقرار العزيز الجبار، مصرحاً بما أريد من الهبوط الذي ربما حمل على النزول من موضع من الجنة عال إلى مكان منها أحط منه {اخرج منها} أي الجنة {مذءوماً} أي محقوراً مخزياً بما تفعل، قال القطاع: ذأمت الرجل: خزيته، وقال ابن فارس: ذأمته، أي حقرته {مدحوراً} أي مبعداً مطروداً عن كل ما لا أريده.ولما علم بعض حاله، تشوفت النفس إلى حال من تبعه، فقال مقسماً مؤكداً بما يحق له من القدرة التامة والعظمة الكاملة: {لمن تبعك منهم} أي بني آدم، وأجاب القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال: {لأملأن جهنم منكم} أي منك ومن قبيلك ومنهم {أجمعين} أي لا يفوتني منكم أحد، فلم يزل من فعل ذلك منكم على أذى نفسه ولا أبالي أنا بشيء.ولما أوجب له ما ذكر من الشقاوة تماديه في الحسد وكثرة كلامه في محسوده، التفت إلى محسوده الذي لم يتكلم فيه كلمة واحدة، بل اشتغل بنفسه في البكاء على ذنبه، واكتفى بفعل ربه بما ينجيه من حبائل مكره التي نصبها بما ذكر، ليكون ذلك سبب سعادته، فقال عطفاً على {اخرج منها}: {ويا آدم اسكن} ولما كان المراد بهذا الأمر هو نفسه لا التجوز به عن بعض من يلابسه، أكد ضميره لتصحيح العطف ورفع التجوز فقيل: {أنت وزوجك الجنة}.ولما كان السياق هنا للتعرف بأنه مكن لأبينا في الجنة أعظم من تمكينه لنا في الأرض بأن حباه فيها رغد العيش مقارناً لوجوده؛ ثم حسن في قوله: {فكلا} العطف بالفاء الدال على أن المأكول كان مع الإسكان، لم يتاخر عنه، ولا منافاة بينه وبين التعبير بالواو في البقرة، لأن مفهوم الفاء نوع داخل تحت مفهوم الواو، ولا منافاة بين النوع والجنس، وقوله: {من حيث شئتما} بمعنى رغداً أي واسعاً، فإنه يدل على إباحة الأكل من كل شيء فيها غير المنهي عنه، وأما آية البقرة فتدل على إباحة الأكل منها في أيّ مكان كان، وهذا السياق إلى آخره مشير إلى أن من خالف أمره تعالى ثل عرشه وهدم عزه وإن كان في غاية المكنة ونهاية القوة كما أخرج من أعظم له المكنة بإسجاد ملائكته وإسكان جنته وإباحة كل ما فيها غير شجرة واحده؛ أكد تحريمها بالنهي عن قربانها دون الاكتفاء بالنهي عن غشيانها فقال: {ولا تقربا} أي فضلاً عن أن تتناولا {هذه الشجرة} مشيراً إلى شجرة بعينها أو نوعها؛ ثم سبب عن القربان العصيان، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه فقال: {فتكونا} أي بسبب قربها {من الظالمين} أي بالأكل منها الذي هو مقصود النهي فتكونا بذلك فاعلين فعل من يمشي في الظلام؛ ثم سبب عن ذلك بيان حال الحاسد مع المحسودين فيما سأل الإنظار بسببه، وأنه وقع على كثير من مراده واستغوى منه أمماً تجاوزوا الحد وقصر عنهم مدى العد؛ ثم بين أنه أقل من أن يكون له فعل، وأن الكل بيده سبحانه، هو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم، وأن من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون، فقال: {فوسوس} أي القى في خفاء وتزيين وتكرير واشتهاء {لهما الشيطان} أي بما مكنه الله منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقى له في خفاء ما يميل به قلبه إلى ما يريد؛ ثم بين علة الوسوسة بقوله: {ليبدي} أي يظهر {لهما ما روي} أي ستر وغطي بأن جعل كأنه وراءهما لا يلتفتان إليه {عنهما} والبناء للمفعول إشارة إلى أن الستر بشيء لا كلفة عليهما فيه كما يأتي في قوله: {ينزع عنهما لباسهما} [الأعراف: 27] و{من سوءاتهما} أي المواضع التي يسوءهما انكشافها، وفي ذلك أن إظهار السوءة موجب للعبد من الجنة وأن بينهما منفية الجمع وكمال التباين.ولما أخبر بالوسوسة وطوى مضمونها مفهماً أنه أمر كبير وخداع طويل، عطف عليه قوله: {وقال} اي في وسوسته أيضاً، أي زين لهما ما حدث بسببه في خواطرهما هذا القول: {ما نهاكما} وذكرهما بوصف الإحسان تذكيراً بإكرامه لهما تجزئة لهما على ما يريد منهما فقال: {ربكما} أي المحسن إليكما بما تعرفانه من أنواع إحسانه {عن} أي ما جعل نهايتكما في الإباحة للجنة متجاوزة عن {هذه الشجرة} جمع بين الإشارة والاسم زيادة في الاعتناء بالتنصيص {إلا أن} أي كراهية أن {تكونا ملكين} أي في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم {أو تكونا} أي بما يصير لكما من الجبلة {من الخالدين} أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلاً..تفسير الآيات (21- 24): {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)}ولما أوصل إليهما هذا المعنى، أخبر أنه أكده تأكيداً عظيماً كما يؤكد الحالف ما يحلف عليه فقال: {وقاسمهما} أي أقسم لهما، لكن ذكر المفاعلة ليدل على أنه حصلت بينهما في ذلك مراوغات ومحاولات بذل فيها الجهد، وأكد لمعرفته أنهما طبعا على النفرة من المعصية- ما أقسم عليه أنواعاً من التأكيد في قوله: {إني لكما} فأفاد تقديم الجار المفهم للاختصاص أنه يقول: إني خصصتكما بجميع نصيحتي {لمن الناصحين} وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف، وأن الأغلب أن كل حلاف كذاب، فإنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه، ولا يظن ذلك إلا هو معتاد للكذب.ولما أخبر ببعض وسوسته لهما، سبب عنها ترجمتها بأنها إهباط من أوج شرف إلى حضيض أذى وسرف فقال: {فدلاَّهما} أي أنزلهما عما كانا فيه من علو الطاعة مثل ما فعل بنفسه بالمعصية التي أوجبت له الهبوط من دار الكرامة {بغرور} أي بخداع وحيلة حتى نسى آدم عهد ربه، وقوله: {فلما ذاقا} مشير إلى الإسراع في الجزاء بالفاء والذوق الذي هو مبدأ الأكل {الشجرة} أي وجدا طعمها {بدت} أي ظهرت {لهما سوءاتهما} أي عوراتهما اللاتي يسوءهما ظهورها، وتهافت عنهما لباسهما فأبصر كل واحد ما كان مستوراً عنه من عورة آلاخر، وذلك قصد الحسود فاستحييا عند ذلك {وطفقا} أي شرعا وأقبلا {يخصفان عليهما} أي يصلان بالخياطة {من ورق الجنة} ورقة الى أخرى {وناداهما ربهما} أي المحسن إليهما بأمرهما ونهيهما، ولم يفعلا شيئاً من ذلك إلا بمرأى منه، فقال منكراً عليهما ما فعلا ومعاتباً: يا عبديَّ {ألم أنهكما} أي أجعل لكما نهاية فيما أذن لكما فيه متجاوزة {عن تلكما الشجرة} أي التي كان حقها البعد منها، الموجبة للقربة من هذا الموضع الشريف إحساناً إليكما {وأقل لكما إن الشيطان} أي الذي تكبر عن السجود حسداً لك يا آدم ونفاسه عليك، فاحترق بغضبي فطرد وأبعد عن رحمتي {لكما} أي لك ولزوجك ولكل من تفرغ منكما ونسب إليكما {عدو مبين} ظاهر العداوة يأتيكم من كل موضع يمكنه الإتيان منه مجاهرة ومساترة ومماكرة فهو مع ظهور عداوته دقيق المكر بما أقدرته عليه من إقامة الأسباب، فإني أعطيته قوة على الكيد، وأعطيتكم قوة على الكيد وأعطيتكم قوة على الخلاص وقلت لكم: تغالبوا فإن غلبتموه فأنتم من حزبي، وإن غلبكم فأنتم من حزبه مع ما له إليكم من العداوة، فالآيه منبهة على أن من غوى فإنما هو تابع لأعدى أعدائه تارك لأولى أوليائه.ولما كان هذا، تشوف السامع إلى جوابهما، فأجيب بقوله: {قالا} أي آدم وحواء- عليهما السلام وأزكى التحية والإكرام- قول الخواص بإسراعهما في التوبة {ربنا} أي أيها المحسن إلينا والمنعم علينا {ظلمنا أنفسنا} أي ضررناها بأن أخرجناها من نور الطاعة إلى ظلام المعصية، فإن لم ترجع بنا وتتب علينا لنستمر عاصيين {وإن لم تغفر لنا} أي تمحو ما عملناه عيناً واثراً {وترحمنا} فتعلي درجاتنا {لنكونن من الخاسرين} فأعربت الآية عن أنهما فزعا إلى الانتصاب بالاعتراف، وسيما ذنبهما- وإن كان إنما هو خلاف الأولى لأنه بطريق النسيان كما في طه- ظلماً كما هي عادة الأكابر في استعظام الصغير منهم، ولم يجادلا كما فعل إبليس، وفي ذلك إشارة إلى أن المبادرة إلى الإقرار بالذنب من فعال الأشراف لكونه من معالي الأخلاق، وأنه لا مثيل له في اقتضاء العفو وإزالة الكدر وأن الجدال من فعال الأرذال ومن مساوي الأخلاق وموجبات الغضب المقتضى للطرد.ولما تشوفت النفس إلى جواب العلي الكبير سبحانه، أجيبت بقوله: {قال اهبطوا} أي إلى دار المجاهدة والمقارعة والمناكدة حال كونكم {بعضكم لبعض عدو} أي أنتما ومن ولدتماه أعداء إبليس ومن ولد، وبعض أولادكم أعداء لبعض، ولا خلاص إلا باتباع ما منحتكم من هدى العقل وما أنزلت إليكم من تأييده بالنقل، وفي ذلك تهديد صادع لمن له أدنى مسكة بالأشارة إلى قبح مغبة المخالفة ولو مع التوبة، وحث على دوام المراقبة خوفاً من سوء المعاقبة {ولكم في الأرض} أي جنسها {مستقر} أي موضع استقرار كالسهول وما شابهها {ومتاع إلى حين} أي انقضاء آجالكم ثم انقضاء اجل الدنيا.
|